فصل: ذكر نقل الملك العادل من حلب وإخراج الملك الأفضل ابن السلطان من مصر إلى دمشق:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية (نسخة منقحة)



.ذكر حصار السلطان صلاح الدين الموصل:

ثم دخلت سنة إحدى وثمانين وخمسمائة وفيها حصر السلطان الموصل وهو حصاره الثاني فأرسل إليه عز الدين والدته وابنة عمه نور الدين بن زنكي وغيرهما من النساء، وجماعة يطلبون منه ترك الموصل وما بأيديهم فردّهم، واستقبح الناس ذلك من صلاح الدين لاسيما وفيهن بنت نور الدين، وحاصر الموصل وضايقها، وبلغه وفاة شاه أرمن صاحب خلاط في ربيع الآخر من هذه السنة فسار من الموصل إلى جهة خلاط باستدعاء أهلها ليملكها.
وفي هذه السنة توفي نور الدين محمد بلا قره أرسلان بلا داود صاحب حصن كيفا وآمد، وملك بعده ولده سكمان ولقب قطب الدين وكان صغيراً فقام بتدبيره القوام بلا سماق الأسعردي، وحضر سكمان إلى السلطان وهو نازل على ميافارقين فاره على ما كان بيد ولده وأقام معه أميراً من أصحاب سكمان المذكور.

.ذكر ملك السلطان صلاح الدين ميافارقين:

لما رحل السلطان عن الموصل جعل طريقه على ميافارقين، وكانت لصاحبها ماردين الذي توفي وفيها من يحفظها من جهة شاه أرمن صاحب خلاط المتوفى، فحاصرها السلطان وملكها في سلخ جمادى الأولى، ثم إن السلطان رجع عن قصد خلاط إلى الموصل فجاءه رسل عز الدين مسعود يسأل الصلح، واتفق حينئذ أن السلطان مرض وسار من كفر زمار عائداً إلى حرّان، فلحقته رسل صاحب الموصل بالإجابة إلى ما طلب وهو أن يسلم صاحب الموصل السلطان شهرزور أعمالها وولاية الفرابلي وجميع ما وراء الزاب وأن يخطب للسلطان صلاح الدين على جميع منابر الموصل وما بيده، وأن يضرب اسمه على الدراهم والدنانير، وتسلم السلطان ذلك واستقر الصلح وأمنت البلاد، ووصل السلطان إلى حران وأقام بها مريضاً، واشتد به المرض حتى أيسوا منه، ثم إنه عوفي وعاد إلى دمشق سنة اثنتين وثمانين من محرم. ولما اشتد مرض السلطان سار ابن عمه محمد بن شيركوه بن شاذي صاحب حمص إلى حمص وكاتب بعض أكابر دمشق في أن يسلموا إليه دمشق إذا مات السلطان.
وفي هذه السنة ليلة عيد الأضحى شرب بحمص صاحبها ناصر الدين محمد بن شيركوه بن شاذي فأصبح ميتاً، قيل أن السلطان هو الذي دس عليه من سقاه سمّاً لما بلغه مكاتبته أهل دمشق في مرضه، ولما مات أقر السلطان حمص وما كان بيده على ولده شيركوه بن محمد وعمره اثنتا عشرة سنة، وخلف صاحب حمص شيئاً كثيراً من الدواب والآلات وغيرها، فاستعرضها السلطان عند نزوله بحمص في عوده من حرّان وأخذ أكثرها ولم يترك إلا ما لا خير فيه.

.ذكر نقل الملك العادل من حلب وإخراج الملك الأفضل ابن السلطان من مصر إلى دمشق:

ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة وفيها أحضر السلطان ولده الملك الأفضل من مصر واقطعه دمشق، وسببه أن الملك المظفر تقي الدين عمر ابن أخي السلطان كان نائب عمه بمصر وكان معه الملك الأفضل فأرسل تقي الدين يشتكي من الأفضل إنني لا أتمكن من استخراج الخراج فإنني إذا أحضرت من عليه الخراج وأرادت عقوبته يطلقه الملك الأفضل، فأرسل السلطان خرج ابنه الأفضل من مصر وأقطعه دمشق، وتغير السلطان على تقي الدين في الباطن، فإنه ظن أنه إنما أخرج ولده من مصر ليمتلك مصر إذا مات السلطان، ثم أحضر أخاه الملك العادل من حلب وجعل معه ولده العزيز عثمان ابن السلطان نائباً عنه بمصر واستدعى تقي الدين من مصر. فقيل إنه توقف عن الحضور وقصد اللحاق بمملوكه قراقوش المستولي على بعض بلاد إفريقية وبرقة من المغرب، وبلغ السلطان ذلك فساءه وأرسل يستدعي تقي الدين ويلاطفه فحضر. ولما حضر تقي الدين إلى السلطان زاده على حماة منبج والمعرة وكفر طلب وميافارقين وجبل جور بجميع أعمالها، واستقر العادل والعزيز عثمان في مصر. ولما أخذ السلطان حلب من أخيه العادل أقطعه عوضها حران والرها.

.ذكر وفاة البهلوان وملك أخيه قزل:

وفي هذه السنة في أولها توفي البهلوان محمد بن الدكز صاحب بلد الجبل وهمذان والري وأصفهان وأذربيجان وأرانية وغيرها من البلاد، وكان عادلاً حسن السيرة، وملك البلاد بعده أخوه قزل أرسلان واسمه عثمان وكان السلطان طغريل بن أرسلان بن طغريل بن محمد بن ملكشاه السلجوقي مع البهلوان وله خطبة في بلاده وليس له من الأمر شيء، فلما مات للبهلوان خرج طغريل عن حكم قزل وكثر جمعه واستولى على بعض البلاد وجرت بينه وبين قزل حروب.

.ذكر غير ذلك من الحوادث:

في هذه السنة غدر البرنس صاحب الكرك وأخذ قافلة عظيمة من المسلمين وأسرهم، فأرسل السلطان يطلب منه إطلاقهم بحكم الهدنة التي كانت بينهم على ذلك فلم يفعل فنذر السلطان أنه إن أظفره الله به قتله بيده.

.ذكر غزوات السلطان وفتوحاته:

ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة وفيها جمع السلطان العساكر وسار بفرقة من العسكر وضايق الكرك خوفاً على الحجاج من صاحب الكرك، وأرسل فرقة أخرى مع ولده الملك الأفضل فأغاروا على بلاد عكا وتلك الناحية وغنموا شيئاً كثيراً، ثم سار السلطان ونزل على طبرية وحصر مدينتها وفتحها عنوة بالسيف وتأخرت القلعة، وكانت طبرية للقومص صاحب طرابلس وكان قد هادن السلطان ودخل في طاعته، فأرسلت الإفرنج إلى قومص المذكور القسوس والبطرك ينهونه عن موافقة السلطان ويوبخونه فسار معهم واجتمع الإفرنج للقاء السلطان.

.ذكر وقعة حطين وهي الوقعة العظيمة التي فتح الله بها الساحل وبيت المقدس:

ولما اخذ السلطان مدينة طبرية اجتمعت الإفرنج وملوكهم بفارسهم وراجلهم وساروا إلى السلطان فركب السلطان من عند طبرية وسار إليهم يوم السبت لخمس بقين من ربيع الآخر، والتقى الجمعان واشتد بينهم القتال، ولما رأى القومص شدة الأمر حمل على مقدمة المسلمين وهناك تقي الدين صاحب حماة فأفرج له وعطف عليه ونجا القومص ووصل إلى طرابلس وبقي مدة يسيرة ومات غبناً، ونصر الله تعالى المسلمين وأحدقوا بالإفرنج من كل ناحية وأبادوهم قتلاً وأسروا، وكان من جملة من أسر ملك الإفرنج الكبير والبرنس أرناط صاحب الكرك وصاحب حبيل وابن الهنغري ومقدم الداوية وجماعة من الأبستارية. وما أصيب الإفرنج منذ خرجوا إلى الشام في سنة إحدى وتسعين وأربعمائة إلى الآن بمصيبة مثل هذه الوقعة.
ولما انقضى المصاف جلس السلطان في خيمته وأحضر ملك الإفرنج وأجلسه إلى جانبه وكان الحر والعطش به شديدا، فسقاه السلطان ماءً مثلوجاً فسقى ملك الإفرنج منه البرنس أرناط صاحب الكرك فقال له السلطان هذا الملعون لم يشرب الماء بإذني فيكون ما ناله، ثم كلم السلطان البرنس ووبخه وقرعه على غدره وقصده الحرمين الشريفين، فقام السلطان بنفسه فضرب عنقه، فارتعدت فرائص ملك الإفرنج فسكّن جأشه، ثم عاد السلطان إلى طبرية وفتح قلعتها بالأمان ثم سار إلى عكا وحاصرها وفتحها بالأمان ثم أرسل إلى أخيه العادل فنازل مجد اليابا وفتحه عنوة بالسيف، ثم فرق السلطان عسكره ففتحوا الناصرة وقيسارية وحيفا وصفورية ومعلشا والغولة وغيرها من البلاد المجاورة لعكا بالطيف وغنموا وقتلوا وأسروا أهل هذه الأماكن وأرسل فرقة إلى نابلس فملكوا قلعتها بالأمان ثم سار الملك العادل بعد فتح مجد اليابا إلى يافا وفتحها عنوة بالطيف ثم سار السلطان إلى تبنين ففتحها بالأمان ثم سار إلى صيدا فأخلاها صاحبها وتسلمها السلطان ساعة وصوله لتسع بقين من جمادى الأولى من هذه السنة ثم سار إلى بيروت فحاصرها وتسلمها في السابع والعشرين من جمادى الأولى بالأمان وكان حصرها مدة ثمانية أيام وكان صاحب حبيل من جملة الأسرى فبذل حبيل بأن يسلمها ويطلق سراحه فأجيب إلى ذلك وكان صاحب حبيل من أعظم الإفرنج وأشدهم عداوة للمسلمين ولم تكن عاقبة إطلاقه حميدة وأرسل السلطان وتسلم حبيل وأطلقه وفيها حضر المركيس في سفينة إلى عكا وهي للمسلمين ولم يعلم المركيس بذلك واتفق هجوم الهواء فراسل المركيس الملك الأفضل وهو بعكا يقترح أمراً بعد أمر والملك الأفضل يجيب إلى ذلك المركيس إلى أن هب الهواء فأقلع المركيس إلى صور واجتمع عليه الإفرنج الذين بها وملك صور وكان وصول المركيس إلى صور ولإطلاق الإفرنج الذين أخذ السلطان بلادهم بالأمان وحملهم إلى صور من أعظم أسباب الضرر الذي حصل حتى راحت عكا وقوي الإفرنج بذلك.
ثم سار السلطان إلى عسقلان وحاصرها أربعة عشر يوماً وتسلمها بالأمان سلخ جمادى الآخرة ثم بث السلطان عسكره ففتحوا الرملة والداروم وغزة وبيت لحم وبيت جبريل والنطرون وغير ذلك. ثم سار السلطان ونازل القدس وبه من النصارى عدد يفوق الحصر وضاق السلطان السور بالنقابين واشتد القتال ونقبوا السور وطلب الإفرنج الأمان فلم يجبهم السلطان إلى ذلك وقال لا آخذها إلا بالسيف مثل ما أخذها الإفرنج من المسلمين فعادوا. في وعرفوه ما هم عليه من الكثرة وأنهم إن أيسوا من الأمان قاتلوا خلاف ذلك القتال فأجابهم السلطان إلى ذلك وشرط أن يؤدي كل من بها من الرجال عشرة دنانير وتؤدي النساء خمسة ويؤدوا عن كل طفل دينارين وأن من عجز عن ذلك يكون أسيراً فأجيب إلى ذلك وسلمت المدينة يوم الجمعة في السابع والعشرين من رجب وكان يوماً مشهوداً ورفعت الأعلام الإسلامية على أسوار المدينة ورتب السلطان على أبواب البلد من يقبض منهم المال المذكور فخان المرتبون في ذلك ولم يحملوا إلا القليل.
وكان على رأس قبة الصخرة صليب مذهب فتسلق المسلمون واقتلعوه فسمع لذلك ضجة لم يعهد مثلها من الإفرنج بالتفجع والتوجع وكان الإفرنج قد عملوا غربي المسجد الأقصى نهراً ومستراحاً فأمر السلطان بإزالة ذلك وإعادة الجامع إلى ما كان عليه. وكان نور الدين محمود بن زنكي قد عمل منبراً بحلب تعب عليه مدة وقال هذا لأجل القدس فأرسل السلطان أحضر المنبر من حلب وجعله في المسجد الأقصى وأقام السلطان بعد فتح القدس يظاهره إلى الخامس والعشرين من شعبان يرتب أمور البلد وأحواله وتقدم بعمل الربط والمدارس الشفعوية.
ثم رحل السلطان إلى عكا ورحل منها إلى صور وصاحبها المركيس قد حصنها بالرجال وحفر خندقها ونزل السلطان على صور تاسع عشر رمضان وحاصرها وضايقها وطلب الأسطول فوصل إليه في عشر شوال فاتفق أن الإفرنج كبسوهم في الشواني وأخذوا خمس شوان ولم يسلم من المسلمين إلا من سبح ونجا وأخذ الباقون وطال الحصار عليها فرحل السلطان عنها في آخر شوال أول كانون الأول وأقام بعكا وأعطى العساكر الدستور فسار كل واحد إلى بلده وبقي السلطان بعكا في حلقته وأرسل إلى هونين وفتحها بالأمان.

.ذكر غير ذلك من الحوادث:

في هذه السنة سار شمس الدين محمد ابن المقدم بعد فتح القدس حاجاً وكان هو أمير الحاج الشامي ليجمع بين الغزاة وزيارة القدس والخليل عليه السلام والحج في عام واحد فسار ووقف بعرفات ولما أفاض أرسل إليه طاستكين أمير الحاج العراقي فمنعه من الإفاضة قبله فلم يلتفت إليه فسار العراقيون واقتتلوا مع الشاميين فقتل بينهم جماعة وابن المقدم يمنع أصحابه من القتال فجرح ومات شهيداً ودفن بمقبرة المعلي.
ثم دخلت سنة أربع وثمانين وخمسمائة فشتى السلطان في هذه السنة بعكا ثم سار بمن معه وقصد كوكب وجعل على حصارها أمير يقال له قايماز النجمي وسار منها في ربيع الأول ودخل دمشق ففرح الناس بقدومه وكتب إلى الأطراف باجتماع العساكر وأقام في دمشق خمسة أيام وسار من دمشق منتصف ربيع الأول ونزل على بحيرة قدس غربي حمص فأتته العساكر بها فأولهم عماد الدين زنكي صاحب سنجار ونصيبين. ولما تكاملت عساكره رحل ونزل تحت حصن الأكراد وشن الغارات على بلاد الإفرنج وسار من حصن الأكراد فنزل على أنطرسوس فوجد الإفرنج قد أخلوا أنطرسوس فسار إلى مرقية فوجدهم قد أخلوها أيضاً فسار تحت المرقب وهو الأسبتار فوجده لا يرام ولا لأحد فيه مطمع فسار إلى جبلة ووصل إليها ثامن جمادى الأولى وتسلمها حالة وصوله فجعل فيها لحفظها الأمير سابق الدين عثمان بن الداية صاحب شيزر ثم سار السلطان إلى اللاذقية فوصل إليها في الرابع والعشرين من جمادى الأولى ولها قلعتان فحصر القلعتين. ولما ملك السلطان اللاذقية سلمها إلى الملك المظفر تقي الدين فعمرها وحصن قلعتيها. وكان تقي الدين عظيم الهمة في تحصين القلاع والغرامة عليها كما فعل بقلعة حماة ثم رحل السلطان عن اللاذقية في التاسع والعشرين من جمادى الأولى إلى صهيون فحاصرها وضايقها وطلب أهلها الأمان فلم يجبهم إلا على أمان أهل القدس فيما يؤدونه فأجابوا إلى ذلك وتسلم السلطان قلعة صهيون وسلمها إلى أمير من أصحابه يقال له ناصر الدين ثم فرق عسكره في تلك الجبال فملكوا حصن بلاطنوس وكان الإفرنج الذين به قد هربوا منه وأخلوه وملكوا حصن العبد وحصن الجماهونين ثم سار السلطان من صهيون ثالث جمادى الآخرة ووصل إلى قلعة بكراس فأخلاها أهلها وتحصنوا بقلعة الشفر فحصرها ووجدها منيعة وضايقها فألقى الله تعالى في قلوب أهلها الفزع وطلبوا الأمان وتسلمها يوم الجمعة سادس جمادى الآخرة بالأمان فأرسل السلطان الملك الظاهر صاحب حلب فحاصر سرمينية وضايقها وملكها واستنزل أهلها على قطيعة قررها عليهم وهدم الحصن وفي أثره وكان في الحصن وفي الحصون المذكورة من أسرى المسلمين الجم الغفير فأطلقوا وأعطوا الكسوة والنفقة ثم سار السلطان من الشفر إلى برزية ورتب عسكره ثلاثة أقسام وداومها بالزحف وملكها بالسيف في السابع والعشرين من جمادى الآخرة وسبى وأسر وقتل أهلها. قال مؤلف الكامل ابن الأثير كنت مع السلطان في مسيره وفتحه هذه البلاد طالباً للغزاة فأحكي ذلك عن مشاهدة ثم سار السلطان فنزل على جسر الحديد وهو على العاصي بالقرب من أنطاكية فأقام عليه أياماً حتى تلاحق به من تأخر من العسكر ثم سار إلى دربساك ونزل عليها ثامن رجب وحاصرها وضايقها وتسلمها بالأمان على شرط أن لا يخرج منها أحد إلا بثيابه فقط وتسلمها تاسع عشر رجب. ثم سار عن دربساك إلى بغراس فحصرها وتسلمها بالأمان على حكم أمان دربساك وأرسل بيمند صاحب أنطاكية إلى السلطان يطلب منه الهدنة والصلح وبذل إطلاق كل أسير عنده فأجاب السلطان إلى ذلك واصطلحوا ثمانية أشهر وكان صاحب أنطاكية حينئذ أعظم ملوك الإفرنج في هذه البلاد فإن أهل طرابلس سلموا إليه طرابلس.
ولما فرغ السلطان من أمر هذه البلاد والهدنة سار إلى حلب ثالث شعبان وسار منها إلى دمشق وأعطى عماد الدين زنكي دستوراً وكذلك أعطى غيره من العساكر الشرقية وجعل طريقة لما رحل من حلب على قبر عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه فزاره وزار الشيخ الصالح أبا زكريا المغربي وكان مقيماً هناك وكان من عباد الله تعالى الصالحين وله كرامات ظاهرة. وكان مع السلطان أبو فليتة الأمير قاسم بن مهنا الحسيني صاحب مدينة الرسول صلّى الله عليه وسلّم وشهد معه مشاهده وفتوحاته وكان السلطان يتبرك برؤيته ويتيمن بصحبته ويرجع إلى قوله ودخل السلطان دمشق في شهر رمضان المعظم فأشير عليه بتفريق العساكر ليريحوا ويستريحوا فقال السلطان إن العمر قصير والأجل غير مأمون وكان السلطان لما سار إلى البلاد الشمالية قد جعل على الكرك وغيرها من يحاصرها وخلى أخاه العادل في تلك الجهات يباشر ذلك فأرسل أهل الكرك يطلبون الأمان فأمر الملك العادل المباشرين لحصارها بتسلمها فتسلموا الكرك والشوبك وما بتلك الجهات من البلاد.
ثم سار السلطان من دمشق في منتصف رمضان إلى صفد فحصرها في ذي القعدة وسير أهلها إلى صور وكان اجتماع أهل هذه القلاع في صور من أعظم أسباب الضرر على المسلمين ظهر ذلك فيما بعد ثم سار السلطان إلى القدس فعيّد فيه عيد الأضحى ثم سار إلى عكا فأقام فيها حتى انسلخت السنة.
وفي هذه السنة أرسل قزل ابن الدكز يستنجد بالخليفة الإمام الناصر على طغريل بن أرسلان بن طغريل السلجوقي ويحذره عاقبة أمره فأرسل الخليفة عسكر إلى طغريل والتقوا ثامن ربيع الأول قرب همذان فانهزم عسكر الخليفة وغنم طغريل أموالهم وأسر مقدم العسكر جلال عبد الله وزير الخليفة.
ثم دخلت سنة خمس وثمانين وخمسمائة وفيها سار صلاح الدين ونزل بمرج عيون وحضر إليه صاحب شقيف أرنون وبذل له تسليم الشقيف بعد مدة ضربها خديعة منه فلما بقي للعدة ثلاثة أيام استحضره السلطان وكان اسم صاحب الشقيف أرناط فقال له السلطان في التسليم فقال لا يوافقني عليه أهلي فأمسكه السلطان وبعثه إلى دمشق فحبس.